سحابة من الكآبة كانت تغشي جميع من حوالي ما عدا انا، فانا في غاية السعادة الآن، لم اشعر بتلك السعادة قط، فلقد تحقق حلمي أخيراً، حصلت علي التأشيرة والآن في طريقي إلي مطار القاهرة.
اصر ابي وامي واخي واختي وزوجها وخالي علي انا يرافقوني للمطار، استأجروا سيارة مكروباص تتسع لنا جميعًا من أجل ذلك الغرض.
أجلس بجوار أمي، التي بدأ الزمن ينقش تجاعيده علي وجهها القمحي الذي لازال يحتفظ بجماله، فهي في منتصف الحلقة السادسة الآن، بذلت كل طاقتها من أجل راحتنا، لم تكمل تعليمها، فلقد تركت المدرسة بعد المرحلة الإبتدائية، لكنها أصرت علي تعليمنا جميعًا، فلقد كانت علي يقين بأن التعليم هو الوحيد القادر علي الرفع من شأننا...ربما لن افتقد في مصر سواها، تحيطني بذراعها وتضمني إليها بقوة، أري الدموع تلمع في مقلتيها.
-أيهون عليك أن تترك امك، وتذهب إلي بلاد الكفار؟
-عام علي اﻷكثر وأعود لأصطحبك معي يا أمي.
-وماذا أفعل هناك؟ وأترك أبيك وأخيك وحدهم؟
-سأصحبكم جميعاً.
لم تعلق علي كلامي لكنها ضحكت ضحكة كاذبة، إرتسمت علي شفتيها لكن لم تستطع أن ترتسم علي عينيها، ﻷنها لم تخرج من القلب وضغطت بيدها البارزة عروقها علي يدي، هل كنت صادق في ذلك الوعد؟ هل سأصطحب أمي وأبي معي؟
لا أعرف حقاً، كيف ستكون الحياة في ذلك البلد الجديد، حياة جديدة لم أعتدها، أناس مختلفين، ثقافة مختلفة، كل شئ مختلف، لكنني طالما صبّرت نفسي بأني قادر على التأقلم علي تلك الظروف، ولن يمر أكثر من عام حتي أصبح فرداً من ذلك المجتمع، سأذوب فيه، كما يذوب السكر في كوب الماء، وسأندمج في ثقافته، وعادته وتقاليده، فلا سبيل غير ذلك وإلا عشت في عزلة إجتماعية، لا صديق ولا رفيق، لكن هل سيرضي ذلك أبي وأمي إذا وفيّت بوعدي وصحبتهم معي؟ ألم يكن من ضمن أسباب رغبتي في الرحيل التخلص من سلطتهم وقيودهم؟
لقد خفت تلك السلطة كثيراً عقب تخرجي من الجامعة وحصولي على مصدر دخل، يعفيني من طلب المال منهم، لكن سلطتهم لم تختفي تماماً ظلت موجودة علي شكل نصائح يسديها لي أبي من وقت لآخر، في واقع الامر لم أكن أنفذ أي منها لكن مجرد سماع تلك النصائح كان يكدر صفوي.
"متي تنتظم في الصلاة؟"
ربما كانت تلك النصيحة أكثر النصائح التي تقع علي سمعي، كان في سنوات دراستي الجامعية يقاطعني بالأسابيع وربما أمتد الأمر لشهور بسبب تركي للصلاة، كانت تمر الشهور ولا نتكلم كلمة واحدة، ولقد أعتدت الأمر، لكن مع قرب تخرجي من الجامعة غير سلوكه هذا، وأصبح لا يتطرق لذلك الأمر غير نادراً.
وقد كانت اجابتي الدائمة لذلك السؤال هي إجابة واحدة أكررها دائماً.
"إن شاء الله"
لم اكن أزيد عن ذلك، ﻷني قد أدركت أن النقاش في ذلك الأمر، والحديث عن الحريات وأن الأمر لا يخص أحدًا غيري لا نفع منه بل أنه يزيد غضبه وثورته.
كان ردي ذلك ينهي الجدال، في بعض الأوقات كان يطلب أن أنزل أصلي معه بالمسجد، كنت أتهرب منه في الغالب، برغم ذلك كنت احب أبي جداً، أقدر كل ما بذله من جهد من أجل أن أكمل تعليمي الجامعي أنا وأخوتي، وهو الموظف البسيط بالإصلاح الزراعي، راتبه بالكاد يكفي لسداد النفقات الأساسية، لكنه كان يعمل عملًا إضافيًا في محل بقالة فتحه تحت المنزل يقضي فيه جل وقته بعد إنتهاء العمل الحكومي لكي ينفق على تعليمنا، وكان يرفض دائمًا عرضي بأن أقف مكانه وأريحه من ذلك العمل.
-أهم شئ أن تحافظ علي دينك، انت ذاهب إلي بلاد لا دين لها.
قال خالي من الكنبة الخلفية، وهو يربت علي كتفي، استدرت إليه، وجدته باسم الوجه، ووجدت شعيرات بيضاء قد زحفت إلي لحيته كما زحفت إلي شعر رأسه، ابتسمت وقلت له:
-إن شاء الله.
"إن شاء الله" تلك الجملة التي تنقذني دائماً من مناقشات لا طائل منها، خالي هو أقرب أقاربي لقلبي، رغم الاختلاف الشديد بين طباعنا، فهو متدين إلي أقصي درجة، يحافظ علي الصلوات وعلي ورده اليومي من القرآن وأحياناً يأم الناس في الزاوية الصغيرة المتاخمة منزله. وأنا علي النقيض تماماً، لا أداوم علي الصلاة لأكثر من أسبوع، وأهيم في بحور الشك، لكن الأدب كان الشئ الوحيد الذي يجمعنا، كنا نجتمع سوياً كل يوم جمعة بعد الصلاة في منزل جدي، نناقش ما قراءه كله منا في الأسبوع الماضي وربما اطلعته علي قصة قصيرة قد كتبتها، يقرأها ويبدي رأيه وأستمع بشغف إلي ملاحظاته وتعديلاته، مؤكد أني سأفتقده هو الآخر.
كانت السيارة تقترب من المطار، كنت قد أتيت مرة واحدة للمطار قبل ثلاث سنوات من أجل توديع "خالد" صديق عمري الذي ذهب للعمل في الإمارات بعد أن تزوج، وبعد عام علي الاكثر انقطعت علاقتنا تقريباً، انشغلت انا في إجراءات الهجرة والاختبارات وأنشغل هو في عمله واسرته، لا ألومه في تلك هي طبيعة الحياة سعي وراء الرزق، لا وقت لاضاعته في الصداقات، كم من صديق انقطعت صلتي بهم تماماً بعد التخرج!
وصلنا المطار وكانت الشمس توشك علي المغيب، فقد انتصر عليها الليل وصرعها فإنتشر دمها الأحمر في صفحة السماء، الذي سيختفي بعد قليل مفسحا المجال لسواد الليل والقمر والنجوم، كان مازال هناك متسمع من الوقت فموعد الطائرة في تمام التاسعة، والساعة الآن لم تتجاوز السادسة، جلسنا في المطار قليلاً قبل أن اذهب وحدي لإنهاء الإجراءات وأجلس في المكان المخصص لإنتظار الطائرة.
كانت أمي تبكي، أحتضنتها بقوة، شعرت بدقات قلبها تخبرني بمدي حبها، وقد كانت دقات قلبي تخبر بالمثل، كانت أمي نعم الأم والصديقة، كانت عكسي أبي فلم تكن تستعمل الشدة معي ومع إخوتي إلا في ما ندر، قبلتها، احتضنتني طويلاً، شعرت انها لا تريد افلاتي، لم أكن أريد تركها أيضًا.
وجدت من يربت علي كتفي بلطف، التفت فقد كان أبي قال لها وإبتسامة شاحبة تعلو وجهه الذي إمتلأ بالتجاعيد:
-اتركيه يا إيمان كي لا يتأخر.
-فليتأخر لا أريده ان يسافر.
قالت ذلك من بين دموعها فخرج صوتها مختنقًا خرينًا، خلصني أبي منها بلطف، وأحتضنني، لم يكن دفء حضنه بنفس دفء حضن أمي، لكنني أطلت احتضانه، فنادرا ما أحتضنه، أذكر آخر مره أحتضنني فيه كانت يوم الحصول على البكالوريوس منذ أربع أعوام، قبلت رأسه ويده، وودعت خالي وأخي وأختي وزوجها علي عجل، ودفعت حقيبتي أمامي وسرت إلي الباب حيث موظفين المطار يتأكدون من تذكرة الطيران ثم يسمحوا لك بالعبور، وقبل ان أدلف إلي الباب، التفت خلفي والقيت نظرة عليهم، كانت امي تضع يدها علي وجهها وتبكي بين يدي اختي، التي احاطتها بذراعيها وخالي بجوارها يربت علي ظهرها، سقطت دمعة علي جواز السفر، قبل أن يستلمه موظف المطار الذي تفحصه ثم سمح لي بالدخول.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق