الهدوء يعم أرجاء المنزل، فقد نام الأولاد مبكرًا, كعادتهم, لا يقطع ذلك الهدوء غير صوت التلفاز الذي لا يشاهده أحد.
جالس
هو أمام الحاسوب، يتصفح بعض المواقع الإخبارية، بينما تجهز زوجته طعام
العشاء الذي قوامه خبز وجبن وزيتون، جهزت الطعام وأتت بصينية العشاء,
ووضعتها امامه
ترقد علي
السرير الأبيض بلا حراك، يحيط بها المحاليل، وشبكة من السلوك والأجهزة تصدر
أنينا متقطعا، شبح الموت يحلق حولها، ويبث الرعب والذعر في كافة أرجاء
الحجرة.
يحيط بها أبنائها نظراتهم حائرة
بينها وبين تلك الشاشة التي تظهر عليها منحنيات وأرقام لا يعلموا ماذا تعني
لكنهم فقط ينظرون ويدعون الفهم والمعرفة.
تحدثت هي بصوت خافت متلعثم, غير مفهوم "أريد أن أكلم حسن" إضطرت أن تكرر الجملة أكثر من مرة حتي فهمومها.
ترددوا
ونظر بعضهم لبعض في حيرة وصمت، قطعت كبري بناتها الصمت "لا داعي لإقلاقة
في غربته، وهو لا حول له ولا قوة، ستتحسن صحتك وتكوني بخير إن شاء الله"
"أريد أن أسمع صوته قبل أن أموت" قالتها بلهجة خافتة متوسلة.
نظر الأبن الأوسط إليهم و طلب رقم أخيه ووضع الهاتف علي أذنها.
بدأ تناول العشاء في صمت، قطع ذلك الصمت رنين هاتفه.
"من
يتصل في ذلك الوقت" سألت زوجته، بينما هرول هو ليحضر الهاتف من غرفة
النوم، نظر في هاتفه، رقم أخيه، تعجب من ذلك الإتصال، فمن النادر أن يتصل
به أخيه، والوقت متأخر، توقع أن أخيه سيزف له خبرا سيئا لا شك في ذلك،
تمالك أعصابه وضغط علي زر الرد.
أتاه الصوت علي الطرف الآخر من الهاتف واهنا ضعيفا
"حسن، أريد أن أراك، إني أحتضر، أريد أن أودعك يا ولدي" تعرف علي صوتها رغم ما تركه فيه المرض من أثر، لقد سلبه المرض قوته وحيويته.
كان حسن أكثر أخوته برًا بأمه وأبيه، وأكثرهم تدليلا فهو أصغر أخوته.
حاول
أن يتحدث، لكن الكلمات عجزت أن تخرج من فمه، صعقته الصدمة فأخرسته، أمه
علي وشك الموت وهو بعيدًا يفصله عنها آلاف الأميال، تمني الآن لو أنه لم
يقدم علي قرار السفر، تمني لو كان هناك معها يجلس تحت قدماها، يمسك يديها،
يقبلها، يحتضنها.
جاء صوتها ثانية "أنا في العناية المركزة يا ولدي"
أتاه
صوت أخته الكبري "لا تقلق هي بخير، لقد أكد الأطباء ذلك، وعكة صحية وستمر"
لم يصدقها أستحلفها بكافة الأيمان أن تصدقه القول، لكنها أكدت أنها لا
تقول غير الحق.
أغلق الهاتف بعد أن أكدت
مجددًا أن الحال مستقرة ولا داعي للخوف والقلق، أغلق الخط, ووضع الهاتف علي
الطاولة، وترقرقت في عينيه دمعتين.
كانت زوجته تراقب المشهد في ذعر، ما إن وضع الهاتف علي الطاولة حتي بادرته"ما الخطب، ماذا هناك؟"
"أمي مريضة...مريضة جدا" أجابها وهو شارد بينما أنحدرت من عينيه الدمعتين بللتا لحيته.
"يجب أن أعود إلي مصر في أقرب وقت، يجب أن أراها"
صمتت لفترة ثم أجابته
-لكن...
-لكن ماذا؟ أمي مريضة ربما لن أراها مجددا.
-لعلها
مجرد وعكة صحية وستمر علي خير، نحن لم نكمل عامنا الأول بعد، مازلنا
غارمين، وإن عدت الآن سنخسر كل شئ، وجودك بجوار أمك لن يغير شيئا، ستكون
بخير.
جلس علي الأريكة، وأخذ يفكر في ما
قالته، وجد تفكيرها منطقي فوجوده مثل عدمه، لكن إن عاد سيخسر الكثير، ولقد
أقسمت أخته أنها مجرد وعكة صحية، لماذا لا يصدقها؟ لكن أمه طلبت رؤيته،
وقلبه لا يطاوعه في قرار عدم العودة، قطع عليه تصارع أفكاره رنين الهاتف
مجددًا...
وكان المتصل أخيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق