كنت اجلس في غرفتي، كنا في ظهيرة يوما حار، كانت المروحة المعلقة في سقف الغرفة تبث هواءا ساخنا، لكن الإستغناء عنها كان يعني انني سأصبح بعد دقائق قطعة لحم مشوية، كنت اتابع حركت المروحة في ملل، واحاول ان اتذكر كم ريشة تحتوي، فأثناء دورانها تبدو كقطعة واحدة، قرص ابيض يكاد يكون شفاف فأنا أري لون السقف من خلاله، لكن يستحيل ان تعرف كم ريشة تكون ذلك القرص، كنت افعل ذلك وانا مستلقي علي سريري، رأسي مشرأبة للسقف، كنت افعل ذلك في ملل لا مثيل له، فقد كنت في عطلتي الصيفية ولا شئ هناك لأفعله فلم تكن بي طاقة للقراءة او فعل أي شئ، وددت في تلك اللحظة لو أنني في حلم طويل لأستيقظ منه اجد نفسي طفل صغيرا كما كنت، فقد كانت طفولتي هي الفترة المثالية بالنسبة إلي لا اشعر قط اني شعرت بأي ملل طوال فترة الاجازة الصيفية في فترة الطفولة.
عندما كنت في المرحلة الابتدائية كنت أنهي اختبارات نهاية العام في وقت مبكر، كان اخر يوم في الاختبارات هو أفضل يوم في العام الدراسي كله، كنت اكره ان استيقظ مبكرا واذهب إلي المدرسة، لذا كانت نهاية العام الدراسي تمثل لي قمة السعادة.
كانت الاجازة بالنسبة لي تبدأ منذ خروجي من لجنة اخر امتحان، نبدأ في تقطيع اي كتب او اوراق كنا نحملها ثم ننثرها من الشرفة التي تطل عليها الفصول الدراسية وتطل هي بدورها علي فناء المدرسة، نبدأ في نثر تلك الوريقات التي تأخذ وقتا لتسقط في الفناء فيبدوا المشهد كأنه إحتفال، ثم نتزاحم علي الدرج، مهللين ومصفقين، ويبدأ بعض الرفاق بترديد "مروحين مروحين عند بلاد الفلاحين" لم اعرف قط ما علاقة تلك اﻷغنية بنهاية الإمتحانات، لكني كنت اردد في سعادة، كانت تنتابني في ذلك اليوم سعادة لم اشعر بمثلها قط في اي يوم اخر.
اذهب إلي المنزل وانا اعدو طوال الطريق فرحا ومنتشيا، كنت اشعر وقتها بأنني اطير فرحا، كنت اشعر بأن الجميع سعيدا من اجلي، وبأن الحياة جميلة وتستحق العناء.
كنت اصل إلي المنزل اجد امي تنتظرني، تسألني كيف كان الاختبار، كنت اتظاهر بعدم الإكتراث واقول لها المهم انه انتهي واصبحت الآن حر، تلح علي حتي أجزم لها بأنه كان في غاية السهولة ولقد انجزته في ربع الوقت.
كنت اشعر وقتها بأنني عصفورا صغير كان محبوس داخل قفص حديدي وقد نال حريته اخير واصبح بمقدوره ان يطير ويشدو كيفما شاء.
كنت في ذلك الوقت لا املك من ادوات الترفيه غير التلفزيون والكوتشينه وبنك الحظ لكنه لم يكن يصلح لللعب ﻷن اغلب أوراقه قد ضاعت فقد كنت اقلبه علي الجانب اﻵخر فهناك السلم والثعبان.
كنت انهمك في لعب الكوتشينة والسلم والثعبان مع اختي حتي تغيب الشمس، حيث لم يكن مسمحوا لي ان تخطوا قدماي الشارع في فترة الظهيرة بدعو انني قد اصاب بضربة شمس، لم اكن مقتنع بذلك لكني كنت افعل ذلك مرغما حتي لا يقسم ابي بأن يمنعني من النزول مطلقا.
كان الشارع بالنسبة لي متعة لا يضاهيها اي متعة في تلك اﻷيام. كان هناك العديد من الأشياء التي نفعلها يأتي علي رأسها لعب الكرة، كنا نلعب في شارعنا، وقد كان شارعنا هو اوسع الشوارع في المنطقة لذا فقد كان هو الملعب الرئيسي، وقد كان يخلو من السيارات في ذلك الوقت لذا فقد كان المكان المثالي للعب الكرة، كنا نضع مرمي في كل نهاية من الشارع، والمرمي لم يكن غير حجرتين بينها عدد اربع او ثلاث خطوات، ولم تكن هناك حاجة ﻷي خطوط أو شئ من هذا القبيل كان يكفينا مجرد كرة.
لكن اهل المنطقة لم يكن يعجبهم ذلك، خاصة عم "شيبة" صاحب مغسلة لغسل السيارات، كان عم "شيبه" رجل كبير في السن، كان هادئ، قصير القامة يرتدي عادة بدلة نصف كم، ويمسك بعصا ابنوس معوجة.
كان يخرج لنا بخرطوم المياه، ويعطينا فرصة لحمام مجاني، لم يكن يتكلم قط، كان يخرج بالخرطوم ويبدأ في رش المياه في نطاق مغسلته، كأنه يقوم بعملا روتينيا، كان بعض الرفاق ممن امتلكوا الشجاعة، لا يتحركوا من اماكنهم ويعطوا الفرصة لعم "شيبه" ان يمارس هوايته المفضل بغسل ملابسهم وغسلهم هم بمياه الخرطوم التي في الغالب كان مصدرها "طلمبة مياه" موجودة داخل مغسلته.
وبعد ان ينتهي عم "شيبه" من تلك الهواية يعود ليجلس علي المكتب داخل المغسلة وكأن شئ لم يكن، لكنه كان يترك الشارع عبارة عن بركة من الماء والوحل يستحيل ان نلعب فيه الكرة.
لم تكن الكرة الرفاهية الوحيدة لنا، فقد كانت لنا هواية غريبة بعض الشئ، وهي صيد "الدبابير" كان يوجد خلفنا حقل يزرع فيه ارز او قمح لا اذكر، لكنه كان به العديد من الدبابير، كنا نتسحب في صمت ونقترب من الدبور كاتمين اﻷنفاس ونمسكه بخفة من جناحه، كان الدبور يحاول في يأس ان يخلص نفسه ويتملص من بين اناملنا لكنه كان يفشل فيبدأ بعد ذلك في الهدوء والرضا باﻷسر، كان جناح الدبور رقيق جدا مثل ورقة بيضاء، فكنا نقطع جناحه لكي لا يطير من بينا اناملنا ويهرب، كنا نتباري فيمن يستطيع أن يأسر اكبر عدد ممكن من الدبابير، ثم نلقي بعد ذلك بالدبابير بعد ان تركناها عاجزة عن الطيران، كانت الدبابير ذات الوان مختلفة اذكر منها اﻷحمر والأخضر والأصفر، واذكر انه كان هناك دبور اسود كنا نطلق عليه لقب "الملك" لأنه كان يمتاز بسرعة الحركة فلم يكن من السهل اصطياده.
كان هناك ايضا لعب "البلي" وقد كنت امتلك "برطمان" به ما يربو عن مائة بلية، لكني كنت اتشاجر اذا سرق احدهم بلية واحدة، او ادعي انه كسب تلك البلية بينما اري انا انه يكذب، اذكر مرة ان شجارا عنيفا وقع بيني وبين احد اقاربي بسبب بلية وتشابكنا باﻷيدي ووصل الشجارة إلي حد القطيعة بين اﻷسرتين، ﻷن كل اسرة كانت تظن ان ابنها مظلوم وطفل اﻷسرة اﻷخري هو المعتدي.
كان ركوب الدرجات هوايتي المفضلة التي امارسها وحدي، لم يكن الجميع يمتلك دراجة هوائية لذا لم تكن تلك الهواية هواية جماعية.
كنت كل عطلة اخرج الدراجة من تحت السرير، واذهب بها إلي عم "خميس العجلاتي" الذي كان محله بجوار المسجد، كان يمسك بالدرجة ويقلبها علي ظهرها بحيث يكن كرسي القيادة للأسفل، والإطارين للأعلي، ثم يبدأ في انتزاع الإطار الداخلي، ويضعه في طشت كبير به ماء ليكشف عن موضع الثقب، فما إن يجده حتي يلصق عليها قطعة "كاوتش" حمراء ليرقعه، ثم يضعه مجددا داخل الإطار ويبدأ في نفخه، وبذلك أستطيع قيادة الدراجة.
كنت اسير بها علي الطريق "اﻷسفلت" الممهد الواصل إلي القري والنجوع التابعة للمدينة، كانت رحلتي تبدأ من بعد صلاة العصر وتنتهي مع آذان المغرب، حيث يكون النهار يجمع عباءته ليحل الليل علي الطريق، وقد كان ذلك الطريق يخلوا من اي مصابيح لذا كان من الخطر القيادة بعد آذان المغرب.
عادة ما كنت اسقط سواء أثناء لعب الكرة أو قيادة الدراجة، وكنت اهرع لبيت جدي حيث كان يضمد الجرح، ويضع لي سائل احمر اللون لا اذكر اسمه لكن كل الذي اذكره انه كان يحرق جلدي، لكن جلدي كان يدعي ان ذلك دليلا على قضاؤه علي الميكروبات وعمله علي إلتئام الجرح.
قطع علي حبل ذكرياتي رنين الهاتف، وقد كان احد اﻷصدقاء يخبرني انه لن يستطيع الخروج اليوم ويسألني أن نؤجل الخروج إلي الغد، وافقته واغلقت الخط، وضحكت ففي الطفولة لم يكن الخروج واللعب يستدعي اكثر من ان ينادي الرفاق من الشارع "يا باااااااااسم" ما إن اسمع ذلك النداء حتي اهرول علي الدرج صائحا بأعلي صوت "حاااااااضر نازل اهوه"
اما الآن فقد كبر الرفاق وانتقل بعضهم من المنطقة، وفرقتنا الكليات، وندرت المقابلات، وتغيرت المنطقة، زحف العمران على المنطقة واختفي حقل اﻷرز واختفت الديابير، وهدم عم "شيبه" المغسلة وبني بيتا، وازدحم الشارع بالسيارات، واصبحت الحياة اكثر مللا.....
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق