شجرة برتقال


بعد عودة ابي من العراق، اشترينا شقة في المدينة، تركت القرية التي ترعرعت فيها، لكن ذكرياتها لم تتركني، لم توافق جدتي علي أن تهجر أهلها وناسها كما قالت، لم يضغط ابي عليها كثيرا وفضل أن يتركها علي راحتها، لذا كان يتوجب علينا ان نزورها كل جمعة، وكان ذلك يوافق هوي في نفسي، فقد كنت اتوق لزيارة القرية ورؤية أصدقائي هناك.
كان يوم الجمعة يمثل عيدا لي، كنت استيقظ مبكرا واذهب انا واخوتي إلي بيت جدتي علي أن يلحق بنا ابي وامي بعد صلاة الجمعة. كنا نقضي النهار بأكمله معها ونرحل بعد أن يصلي ابي العشاء في مسجد القرية.
كانت القرية بالنسبة لي أفضل من المدينة، رغم أنني كنت اتشوق لأن أكون من أهل البندر لكن عندما أصبحت من أهل البندر حسدت أصدقائي الذين مازالوا في القرية، لكني كنت اتظاهر أمامهم بالعكس دائما، واظهر لهم مميزات البندر الطرق ممهدة ونظيفة لا مكان للبهائم ولا روثهم، السيارات في كل مكان، أعمدة الإنارة منتشرة علي طول الطرقات.
كنت انسج لهم من الخيال مغامراتي في البندر، ادعي مرة اني دخلت السينما، ومرة اني دخلت مدينة والملاهي، علي ان في واقع الأمر مغامراتي الحقيقة اقتصرت علي الوقوف في الشرفة ومتابعة الطريق والسيارات. لكن مغامراتي الخيالية كانت تبهر اصدقائي، وتتركهم فاغرين افواههم، ويسبون القري وحياة الريف، ويمني كل منهم نفسه بالانتقال إلي البندر مثلي.
وكنت أنا اسب البندر وحياة البندر، في القرية كان مسموح لي أن اخرج وقتما اشاء وأعود وقتما اشاء، فقد كانت القرية بمثابة بيت كبير، أسرة واحدة كبيرة، كانت تربطنا علاقات قرابة مع كل اهل القرية.  لكن في المدينة الوضع مختلف فالعلاقات بين الجيران تقتصر على السلامات وربما تكون معدومة تماما، فلا استطيع ان اخرج بمفردي بدعوي ان الطريق خطر، مزدحم بالسيارات، فقد كانت شقتنا الجديد بمثابة سجن لي، كنت اود ان اخرج من ذلك السجن اتجول في الطرقات لكن كل ذلك كان ممنوع.
لذلك كان يوم الجمعة هو اليوم الوحيد الذي أغادر فيه ذلك السجن الكئيب، والهو مع أصدقائي في الشوارع كيفما شئت. في يوم من أيام الجمعة تلك اذكر انه كان في أوائل الصيف، ﻷن السماء كانت صافية، لكن الشمس لم تكن شديدة الحرارة، ذهبت يومها كعادتي مبكرا إلي بيت جدتي، لكني لم امكث مع كثيرا فقد اتي "عبد الغني" صديقي ليدعوني لأنضم إليهم.
ذهبت معهم ورأيت السعادة تلمع في اعينهم، اخبرني "عبد الغني" انهم وجدوا شجرة برتقال في أطراف البلدة، تبدو أن لا صاحب لها، تحمست لرؤية تلك الشجرة التي لا صاحب لها.
سرنا سويًا بمحاذاة الترعة، وقد كان هناك صبية اكبر منا سنا يسبحون بها، ونساء تغسل القمح، سرنا طويلا حتي وصلنا لنقطة معلومة لهم وانحرفنا إلي اليمين مبتعدين عن الترعة، سرنا خطوتين حتي هلل اﻷصدقاء وورأيت الشجرة، كانت شجرة صغيرة، لم تكن مثل الشجر الذي اعتدت رؤيته في القرية الذي يدعي البعض أن عمره يقدر بمئات الأعوام، كان ساقها رفيع بعض الأشياء لكن اوراقها كانت خضراء نضرة، محملة بثمار البرتقال، التي كانت تلمع تحت أشعة الشمس فيبدو اللون البرتقالي ذهبي.
تشاورنا في كيفية الوصول الى البرتقال، قال البعض نقذفه بالحجارة كما نفعل مع شجر التوت، لكن الشجرة لم تكن بعلو شجرة التوت، فقمنا برفع احد اﻷصدقاء علي اكتافنا وقام هو بقطف الثمار ثمرة ثمرة وقد قام صديق آخر بمسك ذيل جلبابه بكلتي يديه كي يشكل سلة لإلتقاط الثمار التي يلقيها صديقنا اﻵخر، لا أدري علي وجه الدقة كم عدد الثمار التي قطفناها، لكنني اذكر اننا جلسنا نأكل في البرتقال حتي اذنت صلاة الجمعة، كنت اجلس وظهري للأرض الزاعية خلفنا، ووجهي جهة الشجرة، حين رأيت الجميع ينفض ويجري من حولي، لم اعرف وقتها سبب الجري، حاولت ان الحق بهم لكن يد غليظة اطبقت علي رقبتي من الخلف، وانهال علي كافة أنواع السباب، كان صاحب الشجرة في طريقه إلي صلاة الجمعة عندما وجدنا نرتكب تلك الجريمة، نجو جميعا بفعلتهم ووقعت انا كبش فداء، سحبني من معصمي بقوة إلي داره، التي لم تكن تبعد كثيرا عن تلك الشجرة، أحضر حبلا غليظا، وقيدني إلي الشجرة، لف الحبل حول جسدي عدة مرات، وسألني عن اسم أبي، ثم تركني وانصرف.
بقيت علي حالتي تلك حتي انقضيت صلاة الجمعة واقترب موعد صلاة العصر، وجدت ابي قادم بصحبة صاحب الشجرة، ما إن رأيت ابي حتي انفجرت في البكاء، صفعني ابي علي وجهي وقال وفك قيدي وسحبني من يدي إلي دار جدتي، وهناك انهال علي صفعا ولكما، ولم يسمع لبكاء امي ولا توسلات جدتي بأن يكف عن ضربي.
بعد تلك الحادثة قلت زيارتي للقرية، حتي انقطعت تماما بعد موت جدتي، عدت بعد ثلاثين عاما إلي القرية لكني شعرت أنني غريبا فيها تغير كل شئ، لكني شعرت وقتها بأنني مازلت مقيد إلي تلك الشجرة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كلمات تصميم بلوجرام © 2014