جردل ماء

لم يكن قد مر علي قدومه لورشة الأسطي "محمد" أكثر من أسبوعين لكنه أتقن عمله سريعًا وتشربه. فيداه الصغيرتان  كانتا تعملان بحركة دقيقة كإنسان آلي برمجه صانعوه علي أداء مهمة بعينها، فوضع جُل تركيزه في أداء تلك المهمة.
فيده اليسري كانت تُمسك بقطعة قماش حمراء متسخة اختلط حمارها بالسواد يبللها من جردل حائل اللون به ماء قذر وضعه بجواره ويمسح بقطعة القماش السطح المعدني ليبلله ثم يأتي دور يده اليمني الممسكة بالصنفرة يحك بها السطح لتنعيمه، وما إن ينتهي من تنعيم جزء حتي ينتقل للجزء المجاور، وعندما ينتهي  مما طُلب منه، يخبر الأسطي "محمد" الذي يتأكد من كفاءة عملية التنعيم ثم يكل له مهمة أخري.

كان يؤدي ذلك العمل المُمل بكل تركيز وإتقان، بدا كأنه معزول تمامًا عما حوله عندما أصابت الكرة جردل المياه فسكبت الماء علي الأرض الترابية فلوث الطين أصابعه -التي استطالت أظافرها- النافرة من الصندل.
التفت حوله ليعرف مصدر الكرة وعلامات الغضب ترتسم علي وجهه الأسود الصغير. فسكب الجردل يعني ذهابه إلى المسجد في الشارع الخلفي ليملأه مجددًا وربما طرده عامل المسجد مرة اخري كما فعل أول أمس بحجة ان قدميه الصغيرتين المُتشقق جلدهم قد وسخا سجاد المسجد.
كانت الكرة تخص بعض الصبية من أبناء الحي، كان يلعبون علي
الناصية عندما سدد أحدهم الكرة بقوة فأصابت الجردل.
"شوت الكرة يا كابتن"
صاح فيه أحد الصبيّة.
نظر إلي الفتي الذي صاح فيه ونظر إلي الكرة قُرب قدميه، كثيرًا ما تمني أن يقتني كرة مثلها طالما رأها مُعلقة عند بقال القرية،لكن لم يجد من يُلبي تلك الأمنية عندما طلبها من والده فكان كل ما قاله حينها"ربنا يسهل". حتي لمسها استحال عليه فقد كانت مُعلقة في سقف الدكان وقامته القصيرة لم تتح له فرصة التعرف علي ملمسها...ها هي الكرة بجواره يمكنه أن يلمسها الآن.
 نسيّ غضبه للحظات ولمس الكرة -التي راودته بأحلامه كثيرًا- بخفة بقدمه الصغيرة -التي بدت كفرع شجرة صغير- وجري بها بضع خطوات ثم ركلها للصبيّة علي الناصية.
كم كانت سعادته بتلك اللحظات القليلة التي لامست فيها قدمه الكرة، إنه يعشق لعب الكرة مثله مثل جميع أترابه لكنه من النادر أن تُتاح له الفرصة للعب، لا يذكر آخر مرة لعب فيها الكرة لكن مما لا شك فيه أن ذلك الحدث النادر كان منذ وقتٍ طويل.
فكر في أن يستغل فرصة غياب الأسطي "محمد" ويذهب ليشاركهم اللعب. فلقد ذهب الأسطي لتناول غدائه مع أسرته، فالأسطي "محمد" ليس كغيره من أصحاب الورش ممن يتناولون الطعام في ورشته، فطعام زوجته شئ مُقدس لا غني عنه، وقبل أن يذهب ترك له ثلاث جنيهات كعادته كل يوم لتناول غدائه الذي لا يخرج عادة عن طبق كشري صفير أو ساندوتش فول وساندوتش طعميّة وقليل من المخلل الذي لا يحبه فكان يلقي به علي مقلب القمامة المواجه لمطعم الفول.
طرب لتلك الفكرة لكنه تذكر ذلك العجوز صاحب محل العطارة الذي يعهد له الأسطي "محمد" بحراسة الورشة حتي يعود من تناول غداءه، ربما وشي به وأخبر الأسطي بأنه ترك العمل وذهب ليلهو مع الصبية ووقتها سيضربه الأسطي كما فعل الاسبوع الماضي عندما سكب علبة الدهان يومها كشّر له الأسطي عن أنيابه لأول مرة،  وضربه بيده الغليظة علي مؤخرة رأسه ثم أتْبع تلك الضربة بسيل من الشتائم واللعنات، لكنه سرعان ما تذكر أن ذلك العجوز الطيب دافع عنه يومها وتوسط له عند الأسطي الذي كان قد عزم علي طرده. لا يمكن أن يشي به ذلك العجوز الطيب ويتسبب في ضربه ثانية، فهو رجل طيب ويعامله كابنه.
علت الابتسامة وجهه فظهرت أسنانه الصفراء الصغيرة التي لم تعرف معجون الأسنان والفرشاة من قبل، لكن سواد وجهه أخفي صفار أسنانه فبدت بيضاء مثل القمر في صفحة سماء خالية من النجوم. تقدم بضع خطوات في اتجاه الصبيّة الذين استأنفوا اللعب مُجددًا، لكن البسمة تلاشت وغاب القمر في ظلام السماء عندما نظر لهم عن كثبٍ، وتأملهم، كانوا في مثل سنه او أكبر قليلا، ملابسهم نظيفة التي بدا أنهم يرتدونها لأول مرة ووجوههم نضرة تشع بها الحيوية ورغد العيش. نظر لهم ثم نظر إلى ملابسه التي لم يبدلها منذ أسابيع، بنطاله الجينز القذر الذي يصعب عليك التعرف علي لونه من فرطِ قذارته، والثنية في آخره تدل على أن ملكيته لا تعود إليه، وفانلته خليط من الألوان بفعل الدهانات التي تتساقط عليها باستمرار، تحسس شعره الأشعث الذي لم تمسه المياه منذ فترة طويلة فأصبح أشبه بفروة خروفٍ.
فكر، هل سيسمح له هؤلاء الصبيّة النظفاء بأن يشاركهم اللعب وهو علي هذا النحو من القذارة؟ قد يشعرون بالقرف والإشمئزاز من هيئته وملابسه القذرة ويرفضون طلبه بأن يلعب معهم.
 لكن ألم يطلب منه احدهم بأن يسدد له الكرة، وطلب ذلك بلهجة حميمية صادقة لا تخلو من ود؟ ألا يدل ذلك على ترحيبهم به ورغبتهم بأن يشاركهم اللعب؟ كان بإمكان أحدهم أن يذهب ويحضر الكرة دون توجيه الخطاب له، لكن توجهيهم الخطاب تعني بادرة لعقد صداقة معه ومشاركتهم اللعب، لابد أنهم سيصبحون أصدقاء، وربما طلبوا منه أن يلعب معهم كل يوم في فترة غياب الأسطي "محمد" للغداء.
إتخذ القرار وأسقط الصنفرة وقطعة القماش من يديه وتقدم نحوهم باسم الثغر، لكنه ما كاد يتقدم خطوتين حتي جمدته رؤية الأسطي "محمد"  قادم يتبختر في مشيته يسبقه كرشه بعد أن ملأه من طعامِ زوجته التي يشهد الجميع بمذاقه، لكنه استدار سريعًا إلى جردل المياه مُنكس الرأس وتناوله بخفة وجرى اتجاه المسجد وهو يفكر في حيلة يملأ بها الجردل دون أن يراه العامل.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

كلمات تصميم بلوجرام © 2014